ويستدل على كلامه: بأن محل الإيمان هو القلب، وأنه لا يدخل فيه أي عمل حتى الإقرار، فيقول: (كما في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) )، فيستدل بهذا على أن محل الإيمان هو القلب، وأن من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان فإنه يخرج من النار.
فنقول في الرد عليه: إن الإيمان هذا -وإن كان قليلاً- فلا بد أنه مقترن بالعمل، وهذا الحديث هو في آخر من يخرجون من النار، ليس محله القلب فقط، ولكن نقول: إن الإيمان أصله ما في القلب، فلو كان منافقاً لم يدخل الجنة مطلقاً، ولم يخرج من النار مطلقاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، إن الله حرمها على الكافرين )، فالجنة وما فيها محرمة على المشركين، قال تعالى: (( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ))[المائدة:72].
إذاً: فلا يدخل الجنة إلا مؤمن، فهذا الرجل ليس هو الحالة الأصلية، أي: ليس هو المطلوب، فالله سبحانه وتعالى لم يبعث نبيه صلى الله عليه وسلم، ويأمر أن يدعو الناس إلى أن يؤمنوا بالله، أي: بأن يوجد عند الإنسان مثقال ذرة من إيمان؛ لا، لكنها آخر ما يفقد؛ لأن الإنسان قد يفقد أو يترك الأعمال الواجبات، وقد يترك أيضاً ما يجب باللسان، لكن لو ترك كل شيء حتى ما في القلب فهذا كفر كلية، وإنما بقي لديه أصل ضعيف، ومحله هو القلب؛ لأنه هو أساس دخول الجنة، وهذا الشيء القليل الذي في القلب لا ينفي الإيمان بالعمل مطلقاً، بل له لازم ضعيف مثله، فإذا كان الإيمان القلبي مثقال ذرة؛ فأعمال الجوارح مثقال ذرة على قدرها، وإذا كان الإيمان القلبي مثقال شعيرة؛ فلا بد من عمل للجوارح بقدر الشعيرة.
إذاً: فالإيمان ظاهره وباطنه شيء واحد، فمنه جزء ظاهر ومنه جزء باطن، ولازمه وجود العمل، فلو ترك العمل بالكلية، ولم يعمل بشيء مما أنزل الله بالكلية؛ لما كان عنده شيء من الإيمان مطلقاً، وأما الخروج من النار فمبني على ما في القلب، وهذه الحالات هي آخر شيء، وهي حالات استثنائية، فهي في آخر من يخرج من النار، كما جاء في الحديث الآخر: ( يعرفونهم بعلامة السجود )، فالنار تأكل كل شيء من ابن آدم إلا موضع السجود؛ ولهذا تارك الصلاة لا حظ له في هذا؛ لأنه لا يسجد، قال تعالى: (( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ))[المدثر:43]، فليس له علامة السجود.
إذاً: فالحديث يدل على أن أصل الإيمان هو القلب، لكن لا يدل على أنه لا يوجد إلا في القلب، ولا دلالة على هذا الحصر، وهذه حالة استثنائية وليست الحالة الأصلية التي يبنى عليها حقيقة الإيمان، وإنما هي حالة عارضة، أو هي خلاف الأصل، فهي حالة قلة الإيمان إلى حد أن ليس وراء ذلك شيء، وليس حالة وجود الإيمان الشرعي الذي نقول فيه: الإيمان شرعاً هو كذا؛ فهذا آخر ما يبقى من الإيمان وليس هو الإيمان.
وهذا الحديث يدل على أن الإيمان يزيد وينقص وأنتم لا تقولون بذلك، فما دام هنالك ذرة، وغيره عنده شعيرة، فغيره عنده مثل الجبال.. وهكذا، فالناس يتفاوتون في الإيمان.